English

سجل في دليل العراق

لا يوجد لديك حساب؟
سجل هنا.

احصل على صفحة ألكترونية متميزة وثنائية اللغة (عربي وأنجليزي) لشركتك ومنتجاتك من خلال التسجيل في دليل العراق وادراج مؤسستك فيه
Register

مبنى المصرف العقاري في الرصافة: عمارة، اسمها.. الحداثة

16 شباط 2015
مبنى المصرف العقاري في الرصافة: عمارة، اسمها.. الحداثة
قد لا نكون بعيدين عن الواقع، عندما نشير الى النقص الكبير (هل أقول الفادح؟)، الذي نعاني منه، والمتعلق بالثقافة المعمارية. ثمة عزوف، لايمكن تبريره، عن الإحاطة والمعرفة بهذا الجنس الإبداعي، ليس فقط من قبل المتلقيين العاديين، بل ومن المثقفين، ايضاً، بل واتجرأ وأقول انه حتى المهنيين الذين يفترض بهم الإلمام التام والواسع لطبيعة المهنة وما حولها، ينأون بأنفسهم عن التقصي والبحث المستمر في هذا الحقل الإبداعي المهم. ثمة أسباب عديدة تقف، بالطبع، وراء وجود هذا النقص المعرفي واستمراره في المشهد. ويتحمل المعماريون، والاكاديميون منهم على وجه الخصوص، المسؤولية عن هذه الحالة، لجهة عدم اهتمامهم بما فيه الكفاية في أداء واجبهم بتوسيع جغرافية "فرشة" متذوقي العمارة ومحبيها، هم الذين يعّول عليهم كثيرا في متابعة النشاط المعماري ومناقشته وتقييمه



وهم بعملهم هذا، يحفزون المصممين لاجتراح عمارة ذكية، ومبدعة ورائدة، وجميلة. لكن مع حال ذلك النقص، الذي يسم الخطاب الثقافي المحلي، فثمة مساع نراها لدى بعض المهتمين، تنشد كسر جمود تلك الحالة، بابدائها اهتماما بالمنجز المعماري وبالفعالية المعمارية. وهذه المساعي التي تتطلع لدعم مبادرات النشر المعماري والمساهمة فيه، تجد تقديرا واهتماماً من قبل اؤلئك الذين يتابعون الشأن الثقافي. والأمر الذي يبعث على الابتهاج، هو انتشار تلك المحاولات انتشاراً مطرداً بالفترة الاخيرة. فبالاضافة الى ما بدأناه شخصيا، ومع زملاء آخرين قبل عقود، ثمة كتابات معنية بالعمارة العراقية الحديثة وبالمعماريين الحديثيين، تظهر الآن في أوساط متعددة من الميديا، يسهم بها اكاديميون عديدون، ومهتمون بالعمارة، بل وحتى طلبة المدارس المعمارية، الذين يرفدون نشاط النشر المعماري بآراء متنوعة ورائدة، تسعى وراء توسيع دائرة الثقافة المعمارية.

لا نريد، هنا، ان يكون مقالنا هذا المكرس لموضوع آخر، منصة لإثارة إشكالية شائكة ومتشعبة، لكننا وددنا ان نشير الى وجود ثغرات معرفية ونقاط رمادية غير قليلة في خطابنا الثقافي. فكثير من المباني المصممة في مدننا، علي سبيل المثال، التى نشاهدها دائماً ونستعمل أحيازها لشتى الوظائف، لا نعرف عنها الشيء الكثير: لا نعرف تاريخها ونوعية لغتها المعمارية، ومن هو مصممها. والمبنى، الذي أود الكلام عنه، هو احد مباني بغداد المهمة، ويتمتع بلغة معمارية حداثية، أراها رائدة في الممارسة المحلية. وعمارة هذا المبنى، أضافت الكثير الإيجابي الى النسيج البنائي المجاور، وعد نموذجها احد الشواهد المعمارية المميزة في العاصمة العراقية. لكن هذا المبنى الرائع، ذا اللغة المعمارية الحداثية، منسي من قبل الجميع. لا احد تنبه الى منجزه ولا ُنبه اليه، وتجاهله غالبية المعماريين العراقيين، بل لم اسمع له اي ذكر عند حديثي مع المعماريين الرواد، رغم انه مميز، وعمارته رائدة وجديدة، وله حضور لا يمكن تجاهله او إغفاله. انه ببساطة احد النماذج المعبرة لغياب الوعي المعماري وقلة الثقافة البنائية وفقرها. نحن نتحدث عن عمارة مبنى "المصرف العقاري" في منطقة "جديد حسن باشا" بالرصافة في بغداد.

يعود تاريخ المبنى الى منتصف الخمسينات. لكن اسم المعمار غير معروف للكثير. غير معروف لدي ايضاً. انه احد المعماريين الانكليز؛ وأخمن انه من المصممين الشباب في ذلك الحين. لكنه، وكما يبدو، معمار مجتهد، ومتابع نشط لمختلف التيارات المعمارية حينذاك، ومتعاطف، كما يظهر، مع المقاربات الحداثية منها. سأتحدث عن طبيعة ونوعية اللغة المعمارية للمبنى، فيما بعد. أود ، هنا، الآن، ان أشير الى خصوصية المنطقة والموقع الذي ينهض عليه المبنى. لا اعلم من هو صاحب مقترح اختيار موقع المصرف في ذلك الحي البغدادي الشهير، وكيف تم ذلك. فمنطقة "جديد حسن باشا"، التي يقع المبنى فيها، بعيدة نسبيا عن تلك المنطقة المتاخمة للشورجة، والتي عوّل عليها لتكون "حاضنة" للمركز التجاري والمصرفي في العاصمة العراقية، والتي "تعج" الآن بأبنية المصارف المختلفة. ولهذا فان مبنى المصرف إياه، وبمتطلباته الوظيفية الكثيرة والمتنوعة، بدا وكأنه منشأ غريب، عن تلك المنطقة، بدا وكأنه "اللامنتمي". بدا ذلك! لكني، شخصياً، لا أرى مثل هذا. واعتقد ان قرار اختيار الموقع كان قرارا صائباً ..وجريئاً.

تصطخب "جديد حسن باشا" بتنوع كبير من المباني ذات الوظائف المختلفة. لكن الأهم ما فيها هو "دار الحكم"- القشلة، وما تحتويه من مقار إدارية وحكومية رفيعة. ففيها المقر السابق لمجلس الوزراء ومقار لوزارات عديدة. وفي الماضي، آوت جديد حسن باشا، مقر الوالي العثماني، ويقال ان من ضمن مركز بغداد العباسية، كانت تلك المنطقة إياها. ويقع مجلس الأمة- السلطة التشريعية وقتذاك، في ذلك الحيّ، بالاضافة الى المراكز الادارية والثقافية والتعليمية والتجارية والدينية والقضائية. وحتى الترفيهية المتمثلة في "نادي الضباط"، وغير بعيد عنها هناك سوق الهرج ذائع الصيت، وبالطبع توجد هناك دائرة الإطفاء والبريد و..دائرة البعثات: "اقدم" جامعة عراقية، وأكثرها تأثيرا على جميع مناحي الحياة في العراق. (اذ ان مبعوثي تلك الدائرة وهم اذكي أذكياء البلاد، شكلوا عند رجوعهم وإتمامهم دراستهم في ارقي الجامعات العالمية وأكثرها رصانة، طبقة متنورة، أخذت على عاتقها النهوض بالوطن نحو الإنماء والتقدم). كما لا يغيب عن البال الحضور المكثف للسكن في تلك المنطقة المعروفة.

في موقع بمثل هذا التنويع المدهش للوظائف، ارتؤي ان يكون هناك مقر للمصرف العقاري الحكومي. تعامل المصمم ببرغماتية عالية مع خصوصية الموقع ونسيجه البنائي المتسم على تنوع الوظائف. فهو رأى بان مهام مبناه الحكومي والتجاري ليس بغريب كثيرا عن الفعاليات الاخرى المتواجدة في موقعه. كما انه وعى من ان كتلة المصرف العالية (خمسة طوابق)، ستكون مهيمنة وطاغية على مجاوراتها بصيغة تبدو عدائية نوعا ما. ولهذا فهو "انحسر" بكتلته العالية الى داخل الموقع، مخلياً المكان الى كتلة اوطأ، يتساوق ارتفاعها مع خصوصية علو المباني المجاورة. اصطفى المعمار لغة معمارية حداثية لمبناه. وهذا الاصطفاء، لا يخلو من جرأة، خصوصاً اذا ما علمنا بان السائد في المشهد المعماري الانكليزي وقتذاك، هو سيطرة الطرز الكلاسيكية المحافظة. فمن المعلوم، انه ما عدا نتاجات المعمار "برتهولد لوبيتكن" (1901-1990) B. Lubetkin ومجموعة "تكتون" Tecton في حينها، لم يعر احد كثير اهتمام للحداثة المعمارية في الجزر البريطانية. من هنا، في رأيي، تنبع شجاعة القرار التصميمي المنطوية عليه لغة عمارة المبنى. لقد اعتمد المعمار (الشاب؟) على مايبدو على مبادئ عمارة الحداثة التي سبق وان حدد معالمها ومبادئها "لو كوربوزيه" وزملاؤه المعماريون الروس والألمان. لكنه ايضا وظف النجاحات الأسلوبية التى قدمتها ما يعرف "بالعمارة الاستوائية" Tropical Architecture ، التي تراعي في حلولها التكوينية وعناصرها التصميمية الظروف المناخية السائدة في الأجواء الحارة.

في عمارة المصرف العقاري، ثمة استخدام كثيف وخلاق لعنصر الظل والضوء، الناجم عن التوظيفات الواسعة لكاسرات الشمس "اللوفرات". وقد كان ذلك الاستخدام بمثابة أداة هامة، وربما وحيدة، في أيدي المعمار لمنح لغة مبناه خصوصية عالية، يراد بها التأكيد نوعا ما، على انتماء العمارة الى مكانها. في المبنى البغدادي، تحضر هذه اللغة حضورا بليغاً، لا لبس فيها. ففعالية تنطيق الواجهات، معتمدة اساساً على ذلك الحضور الناصع. ثمة تقسيمات أفقية وعمودية تجزئ أقسام واجهات المبنى. وفي حالات معينة، تبدو الأجزاء المصممة من المبنى، هي الاخرى، ايضاً، مجزءة بعناصر شاقولية. ويبتغى المعمار جراء رهافة تلك "التجزئة" التي خلقها الى إشعارنا، برغبته في تساوق مقياسScale الواجهات المبتدعة وطبيعتها مع "فوضى" أشكال المباني المجاورة، ما يسهل على المعمار، في النهاية، إتمام ما ينشده في عدم غربة مبناه، وانتمائه الى خصوصية البيئة المبنية المحيطة. (وتظهر الصور العديدة، التي التقطتها لموقع المصرف ومجاوراته، مؤخراً، صوابية قرارات المعمار في الإحساس بالانتماء). ثمة تفاصيل عديدة، والمعماريون الانكليز مهووسون بالتفاصيل ومعروف ولعهم الشديد في استخداماتها، نجدها حاضرة بقوة، في عمارة المبنى. انها تضيف اضافة نوعية الى جديد عمارة المصرف، وترفع من قيمته التصميمية، وتمنح المتلقي المحلي، امكانية التلاقي مع انشغالات العمارة العالمية في أوج لحظاتها الإبداعية.

ولئن غُيبت عمارة هذا المبنى، لفترة طويلة عن اهتمام كثر من العراقيين: متلقين عاديين ومهنيين، فقد آن الآوان ان توثق عمارة المصرف وتكتب "سيرته" من جديد، بكل تفاصيلها وخصائصها. وان يتم الرجوع الى وثائق المصرف للاستدلال على اسم المصمم وتاريخ المنشأ الدقيق، وضرورة صيانته والاعتناء به وفق صيغة هيئته الاولى، بعد ان تم نهبه بالكامل، وحرقه أيام السقوط وأثناء تغيير النظام السابق. ومن يكون مؤهلا واقرب الى إنجاز هذه المهمة النبيلة، يا ترى، غير أساتذة أقسام العمارة وطلبتها؟ الذين نناشدهم بضرورة القيام بتوثيق المبنى، كأحد نماذج عمارة الحداثة في وطننا. والعمل والمتابعة في إعادة "الحياة" والحيوية له، كرمز شاخص لإعادة تعمير ما تم فقده في السنين الماضية.

تم التحديث في 16 شباط 2015 | المصدر: جريدة المدى |
Baghdad1.jpgBaghdad2.jpgBaghdad3.jpgBaghdad4.jpgBaghdad5.jpgBaghdad6.jpgD02C91D6-D6AF-491E-83FA-6298F0813544_cx0_cy10_cw0_mw1024_s_n.jpgRTR45I2V.jpg
Child Aid International